فصل: تفسير الآيات (12- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (12- 16):

{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)}
{يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم} على الصراط {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم}.
قال بعضهم: أراد جميع جوانبهم، فعبّر بالبعض عن الكل على مذهب العرب في الإيجاز، ومجازه: عن أيمانهم. وقال الضحّاك: أراد {يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} كتبهم.
وقرأ سهل بن سعد الساعدي: بإيمانهم بكسر الهمزة، والقراءة الصحيحة ما عليه العامة، وأراد بالنور: القرآن.
قال عبد الله بن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يأتي نوره كالنخلة ومنهم من يؤتي نوره كالرجل القائم وأدناهم نوراً على إبهامه فيطفأ مرة ويقد مرة.
وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره موضع قدميه، وتقول لهم الملائكة: {بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم}».
{يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا} قرأة العامة: موصولة أي انتظرونا.
وقرأ يحيى والأعمش وحمزة: {أنظرونا} بفتح الألف وكسر الظاء أي أمهلونا.
وقال الفراء: تقول العرب: أنظرني أي إنتظرني، وأنشد في ذلك بيت عمرو بن كلثوم:
أبا هند فلا تعجل علينا ** وانظرنا نخبرك اليقينا

قال: يعني انتظرنا.
{نَقْتَبِسْ} نستضيء {مِن نُّورِكُمْ} قال المفسرون: إذا كان يوم القيامة أعطى الله تعالى المؤمنين نوراً على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، وأعطى المنافقين الضالّين كذلك خديعة لهم وهو قوله عزّوجل {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142].
وقال الكلبي: بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور.
قالوا فبينما هم يمشون إذ بعث الله تعالى ريحاً وظلمة فأطفأ نور المنافقين، فذلك قوله عزّ وجل {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8] مخافة أن يُسلبوا نورهم كما سلب المنافقون، فإذا بقي المنافقون في الظلمة قالوا للمؤمنين {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ} من حيث جئتم {فالتمسوا} فاطلبوا هناك لأنفسكم {نُوراً} فإنه لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} أي سور والباء صلة، عن الكسائي. وهو حاجز بين الجنة والنار {لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة} يعني الجنة {وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ} أي من قبل ذلك الظاهر {العذاب} وهو النار.
أخبرني ابن فنجويه، حدّثنا أحمد بن ماجة القزويني، حدّثنا محمد بن أيوب الرازي، حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: وأخبرني ابن حمدان، حدّثنا ابن ماهان، حدّثنا موسى بن إسماعيل حماد عن أبي سنان قال: كنت مع علي بن عبد الله بن عباس عند وادي جهنم فحدّث عن أبيه وقرأ {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ} الآية ثم قال: أي هذا موضع السور، يعني وادي جهنم.
وأخبرني ابن فنجويه، حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني أخبرني أحمد بن عمير بن يوسف، حدّثنا عبد السلام بن عتيق، حدّثنا أبو مسهر، حدّثنا سعيد بن عبد العزيز عن عطية بن قيس حدّثني أبو العوام مؤذن أهل بيت المقدس عن عبد الله بن عمرو قال: إن السور الذي ذكر الله عزّوجل في القرآن {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب} سور مسجد بيت المقدس الشرقي باطنه من المسجد وظاهره من قبله {العذاب} الوادي: وادي جهنم.
وأخبرني ابن فنجويه، حدّثنا السني، حدّثنا أبو يعلي الموصلي حدّثنا أبو نصر التمار، حدّثنا سعيد بن عبدالعزيز، عن زياد بن أبي سودة أن عبادة بن الصامت قام على سور بيت المقدس الشرقي فبكى. فقال بعضهم: ما يبكيك يا أبا الوليد؟ فقال: من هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم.
وأخبرني عقيل أن أبا الفرج حدثهم عن محمد بن جرير حدّثني محمد بن عوف، حدّثنا أبو المغيرة، حدّثنا صفوان، حدّثنا شريح أن كعباً يقول في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس أنه الباب الذي قال الله عزّوجل {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} الآية.
{يُنَادُونَهُمْ} يعني ينادي المنافقون المؤمنين حين حجز بينهم بالسور، فبقوا في الظلمة والعذاب، وصار المؤمنون في النور والرحمة {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} في الدنيا نصوم ونصلي ونناكحكم ونوارثكم؟ {قَالُواْ بلى ولكنكم فَتَنتُمْ} أهلكتم {أَنفُسَكُمْ} بالنفاق {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالأيمان.
وقال مقاتل: بل تربّصتم بمحمد الموت وقلتم: يوشك أن يموت محمد فتستريح {وارتبتم} شككتم في التوحيد والنبوة {وَغرَّتْكُمُ الأماني} للأباطيل.
وقال أبو بكر الورّاق: طول الأمل.
أخبرني الحسين، حدّثنا ابن حمدان، حدّثنا يوسف بن عبدالله، حدّثنا مسلم بن أدهم حدّثنا همام بن يحيى، حدّثنا إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط خطوطاً وخط خطاً منها ناحية فقال: «تدرون ما هذا؟ هذا مثل ابن آدم ومثل التمني، وذلك الخط الأمل بينما هو يتمنى إذ جاءه الموت».
وأخبرنا الحسين، حدّثنا الكندي، حدّثنا أبو عيسى حمزة بن الحسين بن عمر، حدّثنا يحيى بن عبد الباقي، حدّثنا عمرو بن عثمان، حدّثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن بلال بن سعد قال: ذكرك حسناتك ونسيانك سيئاتك غرّة.
{جَآءَ أَمْرُ الله} يعني الموت {وَغَرَّكُم بالله الغرور} أي الشيطان. وقرأ سماك بن حرب: بضم الغين يعني الأباطيل.
قال قتادة: كانوا على خدعة من الشيطان وما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار.
{فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} بدل وعوض.
قراءة العامة يؤخذ بالياء.
وقرأ ابن عامر والحسن وأبو جعفر ويعقوب بالتاء واختاره أبو حاتم.
{وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} يعني المشركين {مَأْوَاكُمُ النار} أي صاحبتكم وأولى بكم وأحق بإن تكون مسكناً لكم.
قال لبيد:
فعذب كلا الفريقين بحسب أنه ** مولى المخافة خَلَقَها وإمامها

{وَبِئْسَ المصير * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا} الآية. قال الكلبي ومقاتل: نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة، وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم فقالوا: حدّثنا عمّا في التوراة فإن فيها العجائب، فنزلت الآية {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} [يوسف: 1] إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] فخبّرهم بأن هذا القرآن أحسن من غيره وأنفع لهم، فكفّوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ثم عادوا فسألوا سلمان عن مثل ذلك فنزلت {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} [الزمر: 23] الآية. فكفّوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ثم عادوا أيضاً فسألوا فقالوا: حدّثنا عن التوراة فإن فيها العجائب، ونزلت هذه الآية.
فعلى هذا القول يكون تأويل الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا} في العلانية واللسان.
وقال غيرهما: نزلت في المؤمنين.
قال عبد الله بن مسعود: مَلَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله لو حدّثتنا فأنزل الله عزّوجل {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} [الزمر: 23] الآية.
فقالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله عزّوجل {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] الآية.
فقالوا: يا رسول الله لو ذكّرتنا ووعظتنا. فأنزل الله عزّوجل هذه الآية.
وقال ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلاّ أربع سنين، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضاً.
وقال ابن عباس: إن الله تعالى استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، فقال: {أَلَمْ يَأْنِ} يحن {لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ} ترق وتلين وتخضع {قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ}.
قرأ شيبة ونافع وعاصم برواية المفضل وحفص: خفيفة الزاي، غيرهم: مشددة.
{مِنَ الحق} وهو القرآن، قال مجاهد: نزلت هذه الآية في المتعرّبين بعد الهجرة.
أخبرنا عبد الله بن حامد، حدّثنا محمد بن خالد، حدّثنا سليمان بن داود، حدّثنا عبد بن حميد، حدّثنا يزيد بن هارون، حدّثنا الحسام بن المصك عن الحسن عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يرفع من الناس الخشوع».
{وَلاَ يَكُونُواْ} يعني وألاّ يكونوا، محله نصب بالعطف على {تَخْشَعَ} قال الأخفش: وإن شئت جعلته نهياً فيكون مجازه: ولا يكونن، ودليل هذا التأويل رواية يونس عن يعقوب أنه قرأ: {ولا تكونوا} بالتاء.
{كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ} وهم اليهود والنصارى. {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد} الزمان والدهر والغاية بينهم وبين أنبيائهم {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}.
روى الأعمش عن عمارة بن عمير عن الربيع بن عُميلة، حدّثنا عبد الله حدّثنا، ما سمعت حدّثنا هو أحسن منه إلاّ كتاب الله عزّوجل أو رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم فاخترعوا كتاباً من عند أنفسهم استهوته قلوبهم واستحلته أنفسهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، فقالوا: إعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل فإن تابعوكم فأتركوهم، وإن خالفوكم فاقتلوهم، ثم قالوا: لا بل أرسلوا إلى فلان رجلا من علمائهم فاعرضوا عليه الكتاب فإن تابعكم فلن يخالفكم أحد بعده وإن خالفكم فإقتلوه فلن يختلف عليكم بعده أحد.
فأرسلوا إليه، فأخذ ورقة فكتب فيها كتاب الله عزّوجل ثم جعلها في قَرن ثم علّقها في عنقه، ثم لبس عليه الثياب، ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب فقالوا: أتؤمن بهذا؟ فأومأ إلى صدره فقال: آمنت بهذا، ومالي لا أومن بهذا؟ يعني الكتاب الذي في القَرن، فخلّوا سبيله.
وكان له أصحاب يغشونه، فلما مات نبشوه فوجدوا القَرن ووجدوا فيه الكتاب، فقالوا: ألا ترون قوله: آمنت بهذا، ومالي لا أوُمن بهذا؟ إنما عني هذا الكتاب؟ فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة، وخير مللهم أصحاب ذي القَرن.
قال عبد الله: وإن من بقي منكم سيرى منكراً، وبحسب أمرى يرى منكراً لا تستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره.
وقال مقاتل بن حيان: إنما يعني بذلك مؤمني أهل الكتاب قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد} يعني خروج النبي صلى الله عليه وسلم {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني الذين ابتدعوا الرهبانية أصحاب الصوامع، ثبتت طائفة منهم على دين عيسى حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، ومنهم طائفة رجعت عن دينها وهم الذين فسّقهم فكفروا بدين عيسى ولم يؤمنوا بمحمد عليه السلام.
وقال محمد بن كعب: كانت الصحابة بمكة مجدبين، فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة ففتروا عمّا كانوا فيه، فقست قلوبهم، فينبغي للمؤمنين أن يزدادوا إيماناً ويقيناً وإخلاصاً في طول صحبة الكتاب.
أنبأني عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن العباس الضبّي، أخبرنا أبو جعفر محمد بن عبدالله النيّري، حدّثنا أبو سعيد الأشج، حدّثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن عجلان، عن وائل بن بكر قال: قال عيسى عليه السلام: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فَتقسوَ قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد فإنما الناس رجلان مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية».
أخبرنا أبو الحسن عبدالرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، حدّثنا أبو عبد الله المقرئ قال: سمعت أبا الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول: سمعت أبا عمار الحسين ابن حريث يقول: سمعت الفضل بن موسى السيناني يقول: كان سبب توبة الفضل بن عياض أنه عشق جارية فواعدته ليلا، فبينما هو يرقى الجدران إليها إذ سمع قارئاً يقرأ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} فرجع القهقرى.
وهو يقول: بلى فلان بلى والله فلان. فأواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة، وإذا بعضهم يقول لبعض بالفارسية: فضيل بدر أهست در ما راه بُرّذ.
فقال الفضيل في نفسه: الا أراني أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين يخافونني؟ اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام.
ثم أقبل عليهم فقال لهم بالفارسية: منم فضيل كناه كار أز من ترسيد يدأكنون مترسيد.
قال الفضل بن موسى: ثم خرج فجاور.
وحدّثنا أبو سعد بن أبي عثمان الزاهد، أخبرنا أبو الفضل أحمد بن أبي عمران بمكة، حدّثنا أبو يعقوب البزاز، حدّثنا محمد بن حاتم السمرقندي، حدّثنا أحمد بن زيد، حدّثنا حسين ابن الحسن قال: سئل ابن المبارك وأنا حاضر عن أول زهده فقال: إني كنت في بستان، وأنا شاب مع جماعة من أترابي، وذلك في وقت الفواكه، فأكلنا وشربنا وكنت مولعاً بضرب العود فقمت في بعض الليل، فإذا غصن يتحرك عند رأسي فأخذت العود لأضرب به فإذا بالعود ينطق وهو يقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} قال: فضربت بالعود الأرض فكسرته وصرفت ما عندي من جميع الأمور التي كنت عليها مما شُغلت عن الله، وجاء التوفيق من الله عزّ وجل فكان ما سُهل لنا من الخير بفضل الله.

.تفسير الآيات (17- 25):

{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)}
{اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * إِنَّ المصدقين والمصدقات}. قرأ ابن كثير وعاصم برواية أبي بكر والمفضل بتخفيف الصادين من التصديق مجازه: إن المؤمنين والمؤمنات.
وقرأ الباقون: بتشديدهما بمعنى أن المتصدقين والمتصدقات، فأدغم التاء في الصاد كالمزمل والمدثر، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتباراً لقراءة أُبي: {إن المتصدقين والمتصدقات واقرضوا الله قرضاً حسناً} بالصدقة والنفقة في سبيله.
قال الحسن: كل ما في القرآن من القرض الحسن فهو التطوع وإنما عطف بالفعل على الاسم لأنه في تقدير الفعل، مجازه: إن الذين صدقوا وأقرضوا يضاعف لهم أمثالها.
قراءة العامة: بالألف وفتح العين. وقرأ الأعمش: {يضاعفه} بكسر العين وزيادة هاء.
وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو جعفر {يضعّف} بالتشديد.
{وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} وهو الجنة {والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أولئك هُمُ الصديقون} واحدهم: صديق وهو الكثير الصدق.
قال الضحاك: هم ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام: أبو بكر وعلي وزيد وعثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد وحمزة بن عبد المطلب، تاسعهم عمر بن الخطاب ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نبيّه.
{والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ} اختلف العلماء فى نظم هذه الآية وحكمها، فقال قوم: تمام الكلام عند قوله: {الصديقون} ثم ابتدأ فقال: {والشهدآء} وأراد بهم شهداء المؤمنين خاصة، والواو فيه واو الاستثناء، وهذا قول ابن عباس ومسروق وجماعة من العلماء. وقال الآخرون: هي متصلة بما قبلها، والواو فيه واو النسق.
ثم اختلفوا في معناها، فقال الضحّاك: نزلت في قوم مخصوصين من المؤمنين، وكانوا كلّهم شهداء، وقد مرّ ذكرهم.
وقال غيره: نزلت في المؤمنين المخلصين كلّهم.
أخبرني عبد الله بن حامد إجازة قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني قال: حدّثنا عبد الله ابن غنام النخعي قال: حدّثنا أبو كريب قال: حدّثنا عبيد بن سعيد، عن شعبة، عن أبي قيس، عن الهرمل، عن عبد الله قال: إنّ الرجل ليقاتل الناس ليرى مكانه، وإنّ الرجل ليقاتل على الدنيا، وإنّ الرجل ليقاتل ابتغاء وجه الله، وإنّ الرجل ليموت على فراشه فيكون شهيداً، ثم قرأ: {والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أولئك هُمُ الصديقون والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ}.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن خالد قال: حدّثنا داود بن سليمان قال: حدّثنا عبد بن حميد قال: حدّثنا أبو نعيم قال: حدّثنا سفيان بن ليث، عن مجاهد قال: كلّ مؤمن صدّيق شهيد، ثم قرأ هذه الآية، يعني موصولة.
وقال ابن عباس في بعض الروايات: أراد بالشهداء الأنبياء خاصّة.
{لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} في ظلمة القيامة. {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الجحيم * اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا}: {ما} صلة مجازه {اعلموا}.
{لَعِبٌ} باطل لا حاصل له {وَلَهْوٌ}: فرح ثم ينقضي {وَزِينَةٌ} منظر يتزيّنون به، {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ}: يفخر به بعضكم على بعض، {وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد} أي يُتاه بكثرة الأموال والأولاد.
وقال بعض المتأوّلين من المتأخّرين: لعب كلعب الصبيان، ولهو كلهو الفتيان، وزينة كزينة النسوان، وتفاخر كتفاخر الأقران، وتكاثر كتكاثر الدهقان.
وقال عليّ بن ابي طالب لعمار بن ياسر: «لا تحزن على الدنيا، فإن الدنيا ستّة أشياء: مطعوم، ومشروب، وملبوس، ومشموم، ومركوب، ومنكوح. فأكبر طعامها العسل وهي بزقة ذبابة، وأكبر شرابها الماء ويستوي فيه جميع الحيوان، وأكبر الملبوس الديباج وهي نسجة دود، وأكبر المشموم المسك، وهي دم فأرة ظبية، وأكبر المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأكبر المنكوح النساء وهو مبال في مبال. والله إن المرأة ليزيَّن أحسنها يراد به أقبحها».
ثم ضرب جلّ ذكره لها مثلا فقال عزّ من قائل: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار} أي الزّرّاع {نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} فيبلى ويفنى {وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ}، يعني: أو مغفرة {مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور * سابقوا}: سارعوا {إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا}: سعتها {كَعَرْضِ السمآء والأرض} لوصل بعضها ببعض.
وقال ابن كيسان: عنى به جنّة واحدة من الجنان.
{أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم * مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض} بالجدب والقحط وذهاب الزرع والثمر {وَلاَ في أَنفُسِكُمْ} بالأوصاب والأسقام.
وقال الشعبي: المصيبة: ما يكون من خير وشرّ وما يسيء ويسرّ.
ودليل هذا التأويل قوله سبحانه: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} فذكر الحالتين جميعاً: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} يعني: اللوح المحفوظ {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ}: من قبل أن نخلق الأرض والأنفس.
وقال ابن عباس: يعني المصيبة.
وقال أبو العالية: يعني النسَمَة {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} إن خلق ذلك وحفظه على الله هيّن.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن مخلد قال: أخبرنا داود قال: حدّثنا عبيد قال: حدّثنا أبو نعيم قال: حدّثنا الربيع بن أبي صالح قال: دخلت على سعيد بن جبير في نفر فبكى رجل من القوم، فقال: ما يبكيك؟ قال: أبكي لما أرى بك ولما يذهب بك إليه. قال: فلا تبكِ، فإنّه كان في علم الله سبحانه أن يكون، ألم تسمع إلى قول الله عزّ وجلّ: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ} الآية.
{لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ}: تحزنوا {على مَا فَاتَكُمْ} من الدنيا، {وَلاَ تَفْرَحُواْ}: تبطروا {بِمَآ آتَاكُمْ}. قراءة العامّة بمدّ الألف، أي {أعطاكم}، واختاره أبو حاتم.
وقرأ أبو عمرو بقصر الألف أي: {جاءكم}، واختاره أبو عبيد، قال: لقوله سبحانه: {فَاتَكُمْ} ولم يقل: {أفاتكم} فجعل له، فكذلك {أتاكم} جعل الفعل له ليوافق الكلام بعضه بعضاً.
قال عكرمة: ما من أحد إلاّ وهو يفرح ويحزن فاجعلوا للفرح شكراً وللحزن صبراً.
{والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}: متكبّر بما أُوتي من الدنيا، فخور به على الناس.
وقال ابن مسعود: لأن ألحسَ جمرة أحرقت ما أحرقت، وأبقت ما أبقت، أحبّ إليّ من أن أقول لشيء كان: ليته لم يكن، أو لشيء لم يكن: ليته كان.
قال جعفر الصادق: «يا بن آدم، مالك تأسّف على مفقود لا يردّه إليك الفوت؟ ومالك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت؟».
وقيل لبزرجمهر: ما لك أيها الحكيم لا تأسف على ما فات ولا تفرح بما هو آت؟ فقال: لأنّ الفائت لا يتلافى بالعبرة، والآتي لا يستدام بالحبرة.
وقال الفضيل في هذا المعنى: الدنيا مفيد ومبيد فما أباد فلا رجعة له، وما أفاد فقد أذن بالرحيل.
وقال الحسين بن الفضل: حمل الله سبحانه بهذه الآية المؤمنين على مضض الصبر على الفائت، وترك الفرح بالآتي، والرضا بقضائه في الحالتين جميعاً.
وقال قتيبة بن سعيد: دخلت بعض أحياء العرب فإذا أنا بفضاء من الأرض مملوء من الإبل الموتى والجيف بحيث لا أُحصي عددها، فسألت عجوزاً: لمن كانت هذه الإبل؟ فأشارت إلى شيخ على تلّ يغزل صوفاً، فقلت له: يا شيخ ألك كانت هذه الإبل؟ قال: كانت باسمي. قلت: فما أصابها؟ قال: ارتجعها الذي أعطاها. قلت: وهل قلت في ذلك شيئاً؟ قال: نعم:
لا والذي أخذ [...] من خلائقه ** والمرء في الدهر نصب الرزء والمحنِ

ما سرّني أنّ إبْلي في مباركها ** وما جرى في قضاء الله لم يكنِ

وقال سلم الخوّاص: من أراد أن يأكل الدارين فليدخل في مذهبنا عامين؛ ليضع الله سبحانه الدنيا والآخرة بين يديه. قيل: وما مذهبكم؟ قال: الرضا بالقضا، ومخالفة الهوى. وأنشد:
لا تطل الحزن على فائت ** فقلّما يجدي عليك الحزنْ

سيّان محزون على ما مضى ** ومظهرٌ حزناً لما لم يكنْ

{الذين يَبْخَلُونَ}، قيل: هو في محل الخفض على نعت المختال، وقيل: هو رفع بالابتداء وخبره ما بعده. {وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} قرأ أهل المدينة والشام بإسقاط {هُوَ} وكذلك هو في مصاحفهم. الباقون بإثباته.
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان} يعني له يعدل. وقال ابن زيد: ما يوزن به. {لِيَقُومَ الناس بالقسط}: ليعمل الناس بينهم بالعدل {وَأَنزَلْنَا الحديد}، قال ابن عباس: نزل آدم من الجنّة معه خمسة أشياء من الحديد: السندان، والكلبتان، والمنقعة، والمطرقة، والأُبرة.
وقال أهل المعاني: يعني أنه أخرج لهم الحديد من المعادن، وعلمهم صنيعته بوحيه.
وقال قطرب: هذا من النُزُل كما تقول: أنزل الأمر على فلان نزلا حسناً، فمعنى الآية أنه جعل ذلك نزلا لهم، ومثله قوله: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6].
ودليل تأويل السلف من المفسرين ما أخبرنا أبو سفيان الحسن بن عبد الله الدهقان قال: حدّثنا الحسن بن إسماعيل بن خلف الخيّاط قال: حدّثنا أبو بكر محمّد بن الفرج المعدّل قال: حدّثنا محمّد بن عبيد بن عبد الملك قال: حدّثنا سفيان بن محمّد أبو محمّد ابن أخت سفيان الثوري عن عبد الملك بن ملك التميمي عن عبد الله بن خليفة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله عزّ وجلّ أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: فأنزل الحديد، والنّار، والماء والملح».
{فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}، قوّة شديدة، يعني: السلاح والكراع، {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} ممّا يستعملونها في مصالحهم ومعايشهم؛ إذ هو آلة لكلّ صنعة. {وَلِيَعْلَمَ الله}، يعني: أرسلنا رسلنا، وأنزلنا معهم هذه الأشياء؛ ليعامل الناس بالحقّ والعدل وليرى سبحانه {مَن يَنصُرُهُ} أي دينه {وَرُسُلَهُ بالغيب إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.